سورة العنكبوت - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (العنكبوت)


        


{اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {اتْلُ} أمر من التلاوة والدءوب عليها. وقد مضى في طه الوعيد فيمن أعرض عنها، وفي مقدمة الكتاب الامر بالحض عليها. والكتاب يراد به القرآن.
الثانية: قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ} الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته. وإقامة الصلاة أداؤها في وقتها بقراءتها وركوعها وسجودها وقعودها وتشهدها وجميع شروطها. وقد تقدم بيان ذلك في البقرة فلا معنى للإعادة.
الثالثة: قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ} يريد إن الصلاة الخمس هي التي تكفر ما بينها من الذنوب، كما قال عليه السلام: «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شي» قالوا: لا يبقى من درنه شي، قال: «فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا» خرجه الترمذي من حديث أبي هريرة، وقال فيه حديث حسن صحيح.
وقال ابن عمر: الصلاة هنا القرآن. والمعنى: الذي يتلى في الصلاة ينهى عن الفحشاء والمنكر، وعن الزنى والمعاصي قلت: ومنه الحديث الصحيح: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» يريد قراءة الفاتحة.
وقال حماد بن أبي سليمان وابن جريج والكلبي: العبد ما دام في صلاته لا يأتي فحشاء ولا منكرا، أي إن الصلاة تنهى ما دمت فيها. قال ابن عطية: وهذه عجمة وأين هذا مما رواه أنس بن مالك قال: كان فتى من الأنصار يصلي مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يدع شيئا من الفواحش والسرقة إلا ركبه، فذكر للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «إن الصلاة ستنهاه»
فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ألم أقل لكم».
وفي الآية تأويل ثالث، وهو الذي ارتضاه المحققون وقال به المشيخة الصوفية وذكره المفسرون، فقيل المراد ب {أقم الصلاة} إدامتها والقيام بحدودها، ثم أخبر حكما منه بأن الصلاة تنهى صاحبها وممتثلها عن الفحشاء والمنكر، وذلك لما فيها من تلاوة القرآن المشتمل على الموعظة. والصلاة تشغل كل بدن المصلي، فإذا دخل المصلي في محرابه وخشع وأخبت لربه وادكر أنه واقف بين يديه، وأنه مطلع عليه ويراه، صلحت لذلك نفسه وتذللت، وخامرها ارتقاب الله تعالى، وظهرت على جوارحه هيبتها، ولم يكد يفتر من ذلك حتى تظله صلاة أخرى يرجع بها إلى أفضل حالة. فهذا معنى هذه الاخبار، لان صلاة المؤمن هكذا ينبغي أن تكون. قلت: لا سيما وإن أشعر نفسه أن هذا ربما يكون آخر عمله، وهذا أبلغ في المقصود وأتم في المراد، فإن الموت ليس له سن محدود، ولا زمن مخصوص، ولا مرض معلوم، وهذا مما لا خلاف فيه. وروي عن بعض السلف أنه كان إذا قام إلى الصلاة أرتعد وأصفر لونه، فكلم في ذلك فقال: إني واقف بين يدي الله تعالى، وحق لي هذا مع ملوك الدنيا فكيف مع ملك الملوك. فهذه صلاة تنهى ولا بد عن الفحشاء والمنكر، ومن كانت صلاته دائرة حول الاجزاء، لا خشوع فيها ولا تذكر ولا فضائل، كصلاتنا- وليتها تجزي- فتلك تترك صاحبها من منزلته حيث كان، فإن كان على طريقة معاص تبعده من الله تعالى تركته الصلاة يتمادى على بعده. وعلى هذا يخرج الحديث المروي عن ابن مسعود وابن عباس والحسن والأعمش قولهم: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعدا، وقد روي أن الحسن أرسله عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك غير صحيح السند. قال ابن عطية سمعت أبي رضي الله عنه يقول: فإذا قررنا ونظر معناه فغير جائز أن يقول إن نفس صلاة العاصي تبعده من الله حتى كأنها معصية، وإنما يتخرج ذلك على أنها لا تؤثر في تقريبه من الله، بل تتركه على حاله ومعاصيه، من الفحشاء والمنكر والبعد، فلم تزده الصلاة إلا تقرير ذلك البعد الذي كان سبيله، فكأنها بعدته حين لم تكف بعده عن الله. وقيل لابن مسعود: إن فلانا كثير الصلاة فقال: إنها لا تنفع إلا من أطاعها.
قلت: وعلى الجملة فالمعنى المقصود بالحديث: «لم تزده من الله إلا بعدا ولم يزدد بها من الله إلا مقتا» إشارة إلى أن مرتكب الفحشاء والمنكر لا قدر لصلاته، لغلبة المعاصي على صاحبها.
وقيل: هو خبر بمعنى الامر. أي لينته المصلى عن الفحشاء والمنكر. والصلاة بنفسها لا تنهى، ولكنها سبب الانتهاء. وهو كقوله تعالى: {هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} وقوله: {أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ}.
الرابعة: قوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي ذكر الله لكم بالثواب والثناء عليكم أكبر من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم. قال معناه ابن مسعود وابن عباس وأبو الدرداء وأبو قرة وسلمان والحسن، وهو اختيار الطبري. وروي مرفوعا من حديث موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في قول الله عز وجل: {ولذكر الله أكبر} قال: {ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه}.
وقيل: ذكركم الله في صلاتكم وفي قراءة القرآن أفضل من كل شي.
وقيل: المعنى، إن ذكر الله أكبر مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر.
وقال الضحاك: ولذكر الله عند ما يحرم فيترك أجل الذكر.
وقيل: المعنى ولذكر الله للنهي عن الفحشاء والمنكر أكبر أي كبير، وأكبر يكون بمعنى كبير.
وقال ابن زيد وقتادة: ولذكر الله أكبر من كل شيء أي أفضل من العبادات كلها بغير ذكر.
وقيل: ذكر الله يمنع من المعصية فإن من كان ذاكرا له لا يخالفه. قال ابن عطية: وعندي أن المعنى ولذكر الله أكبر على الإطلاق، أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك، وكذلك يفعل في غير الصلاة، لان الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر الله مراقب له. وثواب ذلك أن يذكره الله تعالى، كما في الحديث: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملا ذكرته في ملا خير منهم» والحركات التي في الصلاة لا تأثير لها في نهى، والذكر النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرغه إلا من الله. وأما ما لا يتجاوز اللسان ففي رتبة أخرى. وذكر الله تعالى للعبد هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه، وذلك ثمرة لذكر العبد ربه. قال الله عز وجل: {فاذكروني أذكركم}. وباقي الآية ضرب من الوعيد والحث على المراقبة.


{وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47)}
فيه مسألتان: الأولى: اختلف العلماء في قوله تعالى: {وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ} فقال مجاهد: هي محكمة فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن على معنى الدعاء لهم إلى الله عز وجل، والتنبيه على حججه وآياته، رجاء إجابتهم إلى الايمان، لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة. وقوله على هذا: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} معناه ظلموكم، وإلا فكلهم ظلمة على الإطلاق.
وقيل: المعنى لا تجادلوا من آمن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أهل الكتاب المؤمنين كعبد الله بن سلام ومن آمن معه. {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي بالموافقة فيما حدثوكم به من أخبار أوائلهم وغير ذلك. وقوله على هذا التأويل: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} يريد به من بقي على كفره منهم، كمن كفر وغدر من قريظة والنضير وغيرهم. والآية على هذا أيضا محكمة.
وقيل: هذه الآية منسوخة بآية القتال قوله تعالى: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}. قال قتادة: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي جعلوا لله ولدا، وقالوا: {يد الله مغلولة} و{إن الله فقير} فهؤلاء المشركون الذين نصبوا الحرب ولم يؤدوا الجزية فانتصروا منهم. قال النحاس وغيره: من قال هي منسوخة أحتج بأن الآية مكية، ولم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض، ولا طلب جزية، ولا غير ذلك. وقول مجاهد حسن، لان أحكام الله عز وجل لا يقال فيها إنها منسوخة إلا بخبر يقطع العذر، أو حجة من معقول. واختار هذا القول ابن العربي.
قال مجاهد وسعيد بن جبير: وقوله: {إلا الذين ظلموا منهم} معناه إلا الذين نصبوا للمؤمنين الحرب فجدالهم بالسيف حتى يؤمنوا، أو يعطوا الجزية.
الثانية: قوله تعالى: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} روى البخاري عن أبي هريرة: قال كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية، لأهل الإسلام، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم» {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ}.
وروى عبد الله بن مسعود أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا إما أن تكذبوا بحق وإما أن تصدقوا بباطل».
وفي البخاري: عن حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب.


{وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ} الضمير في {قَبْلِهِ} عائد إلى الكتاب وهو القرآن المنزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي وما كنت يا محمد تقرأ قبله، ولا تختلف إلى أهل الكتاب، بل أنزلناه إليك في غاية الاعجاز والتضمين للغيوب وغير ذلك، فلو كنت ممن يقرأ كتابا، ويخط حروفا {لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ} أي من أهل الكتاب، وكان لهم في ارتيابهم متعلق، وقالوا الذي نجده في كتبنا أنه أمي لا يكتب ولا يقرأ وليس به قال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يخط ولا يقرأ فنزلت هذه الآية، قال النحاس: دليلا على نبوته لقريش، لأنه لا يقرأ ولا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب ولم يكن بمكة أهل الكتاب فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم وزالت الريبة والشك.
الثانية: ذكر النقاش في تفسير هذه الآية عن الشعبي أنه قال: ما مات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى كتب. وأسند أيضا حديث أبي كشة السلولي، مضمنة: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ صحيفة لعيينة بن حصن، وأخبر بمعناها. قال ابن عطية: وهذا كله ضعيف، وقول الباجي رحمه الله منه. قلت: وقع في صحيح مسلم من حديث البراء في صلح الحديبية أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعلي: «أكتب الشرط بيننا بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله» فقال له المشركون: لو نعلم أنك رسول الله تابعناك- وفي رواية بايعناك- ولكن أكتب محمد بن عبد الله فأمر عليا أن يمحوها، فقال علي: والله لا أمحاه. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أرني مكانها» فأراه فمحاها وكتب ابن عبد الله. قال علماؤنا رضي الله عنهم: وظاهر هذا أنه عليه السلام محا تلك الكلمة التي هي رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيده، وكتب مكانها ابن عبد الله. وقد رواه البخاري بأظهر من هذا. فقال: فأخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكتاب فكتب. وزاد في طريق أخرى: ولا يحسن أن يكتب. فقال جماعة: بجواز هذا الظاهر عليه وأنه كتب بيده، منهم السمناني وأبو ذر والباجي، ورأوا أن ذلك غير قادح في كونه أميا، ولا معارض بقوله: {وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} ولا بقوله: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» بل رأوه زيادة في معجزاته، واستظهارا على صدقه وصحة رسالته وذلك أنه كتب من غير تعلم لكتابة، ولا تعاط لأسبابها، وإنما أجرى الله تعالى على يده وقلمه حركات كانت عنها خطوط مفهومها ابن عبد الله لمن قراها، فكان ذلك خارقا للعادة، كما أنه عليه السلام علم علم الأولين والآخرين من غير تعلم ولا اكتساب، فكان ذلك أبلغ في معجزاته، وأعظم في فضائله. لا يزول عنه اسم الأمي بذلك، ولذلك قال الراوي عنه في هذه الحالة: ولا يحسن أن يكتب. فبقي عليه اسم الأمي مع كونه قال كتب. قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر: وقد أنكر هذا كثير من متفقهة الأندلس وغيرهم وشددوا النكير فيه، ونسبوا قائله إلى الكفر، وذلك دليل على عدم العلوم النظرية، وعدم التوقف في تكفير المسلمين، ولم يتفطنوا، لان تكفير المسلم كقتله على ما جاء عنه عليه السلام في الصحيح، لا سيما رمي من شهد له أهل العصر بالعلم والفضل والامامة، على أن المسألة ليست قطعية، بل مستندها ظواهر أخبار أحاد صحيحة، غير أن العقل لا يحيلها. وليس في الشريعة قاطع يحيل وقوعها. قلت: وقال بعض المتأخرين من قال هي آية خارقة، فيقال له: كانت تكون آية لا تنكر لولا أنها مناقضة لآية أخرى وهي كونه أميا لا يكتب، وبكونه أميا في أمة أمية قامت الحجة، وأفحم الجاحدون، وانحسمت الشبهة، فكيف يطلق الله تعالى يده فيكتب وتكون آية. وإنما الآية ألا يكتب، والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضا. وإنما معنى كتب واخذ القلم، أي أمر من يكتب به من كتابه، وكان من كتبة الوحي بين يديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ستة وعشرون كاتبا.
الثالثة: ذكر القاضي عياض عن معاوية أنه كان يكتب بين يدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: «ألق الدواة وحرف القلم واقم الباء وفرق السين ولا تعور الميم وحسن الله ومد الرحمن وجود الرحيم» قال القاضي: وهذا وإن لم تصح الرواية أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب فلا يبعد أن يرزق علم هذا، ويمنع القراءة والكتابة. قلت: هذا هو الصحيح في الباب أنه ما كتب ولا حرفا واحدا، وإنما أمر من يكتب، وكذلك ما قرأ ولا تهجى. فإن قيل: فقد تهجى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين ذكر الدجال فقال: «مكتوب بين عينيه ك اف ر» وقلتم إن المعجزة قائمة في كونه أميا، قال الله تعالى: {وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ} الآية وقال: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» فكيف هذا؟ فالجواب ما نص عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث حذيفة، والحديث كالقرآن يفسر بعضه بعضا. ففي حديث حذيفة: «يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب» فقد نص في ذلك على غير الكتاب ممن يكون أميا. وهذا من أوضح ما يكون جليا.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9